التدخين
من الأزمات الهالكة ، والعقد الشائكة ، الذي أهلكت كثيراً من العباد ، وأوهنت القوى والأجساد ، ألا وهي " أزمة التدخين " التي توغلت في جميع البلاد .
ونتكلم اليوم عن هذا الداء الذي استشرى واستروى في النفوس ، فالتدخين وباءٌ خطير، وشرٌّ مستطيرٌ، وبلاءُ مدمرٌ ، أضرارُه جسيمةٌ، وعواقبه وخيمة .
وقد وقع في شَرَكِهِ كثير من الناس، فغدا بألبابهم، واستولى على قلوبهم، فعز عليهم تركُه، وصعب في نفوسهم أن يتخلصوا من أسْره.
وكثير من هؤلاء المدخنين يملكون قلوباً حيَّة، وعواطف للإسلام قوية ؛ فقلوبهم تنبض بالخير وتألفه ، وعواطفهم تفيض بمحبة الإسلام وأهله .
إلا أنهم بلوا بالتدخين، فصاروا من ضحاياه، وممن يعاني من شروره وبلاياه.
ثم إن أكثر المدخنين لا يكابرون في ضرر التدخين، ولا يشُكُّون في أثره على الصحة والدين، بل تراهم يُؤمِّلون في تركه، ويسوِّفون بالإقلاع عنه، ويسعون في الخلاص منه .
فكيف النجاة من هذا الداء الوبيل؟ وما العلاج الناجع، والدواء النافع، من هذا السم الزعاف الناقع ؟
معاشر المسلمين :
وقبل أن نشرع في تبيين هذا الداء ينبغي علينا أن نعلم مصدرهذه المادة ـ أي الدخان ـ وذلك نقلاً عن مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، فيقول الكاتب :
" لم تكتشف هذه المادة إلا عام 1828م اكتشفها عالمان ألمانيان وأطلقا على هذه المادة اسم نيكوتين نسبة إلى رجل يدعى ( جان نيكوت ) وكان سفيرا لفرنسا في البرتغال، وقد زرع هذه المادة في حديقة منزله مستهدفا تزيينها بأوراق التبغ الجميلة وأزهاره الجذابة ، وفجأة طارت الشائعات ببعض الفوائد الطبية لهذا النبات وسرعان ما فشا وانتشر في أوربا كلها ، وكانت تلك هي البداية الخطيرة .
وقد أثبت الأطباء له مضار عظيمة وقالوا إنها تكمن في الجسم أولا ثم تظهر فيه تدريجيا.
وما جلب الغربيون الدخان لبلاد الإسلام إلا بعد إجماع أطبائهم على منعهم من ملازمته ، وأمرهم بالاقتصار على اليسير الذي لا يضر ، لتشريحهم رجلا مات باحتراق كبده وهو ملازمه ، فوجدوه ساريا في عروقه وعصبه ، ومسودا مخ عظامه ، وقلبه مثل إسفنجة يابسة ، فمنعوهم من مداومته ، وأمروهم ببيعه للمسلمين لإضرارهم ..
فلو لم يكن فيه إلا هذا لكان باعثا للعقل على اجتنابه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الحلال بين والحرام بين ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه » .
ومن ذلك الوقت والفقهاء يجتهدون في استنباط حكمه الفقهي ، فمنهم من أداه اجتهاده إلى التحريم ومنهم من أداه اجتهاده إلى الإباحة ومنهم من أداه اجتهاده إلى الكراهة ،
والسبب الرئيس في هذا الاختلاف هو الخلاف في وجود الضرر ونسبته ، فمن رأى أنه مضر قال بتحريمه ، ومن رأى أنه غير مضر أو أن ضرره محدود قال بإباحته ، بل إن القائلين بالإباحة صرحوا بأنه لو ثبت ضرره كان من المحرمات.
وأكثر العلماء قالوا بالتحريم لأنه مضر بالصحة ومن قواعد الشرع الأساسية " أن كل ضار حرام "
واستدلوا على تحريم الدخان بالأدلة التالية :
1) ـ قال تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )
فالآية تدل على النهي عن كل ما يؤدي إلى ضرر والدخان من الضرر والهلاك .
قال النووي : " كل ما ضر أكله كالزجاج والحجر والسم يحرم أكله ".
2) ـ وقال تعالى : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث )
وقد أمر الحق سبحانه وتعالى أن يتحرى المؤمن الطيب من الرزق فقال جل جلاله:
( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون )
وقال تعالى : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون )
3)- وقال تعالى: ( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ) سورة الإسراء .
أليس هذا تبذيراً والنبي ( يقول: " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم عمل فيه ، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه " .
هذه أدلة من القرآن أما من السنة :
1) ـ قالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر » قال العلماء : المفتر : ما يحدث الفتور والخدر في الأطراف والجسم .
2) ـ وقال أيضاً : " لا ضرر ولا ضرار " ، والدخان يضر صاحبه ، ويؤذي جاره ، ويتلف ماله ) .
إن جسد الإنسان ملك لله تعالى الذي خلقه وأبدعه، وليس ملكا للإنسان وإنما هو أمانة لديه ووديعة عنده فلا يجوز التصرف فيه إلا بما فيه صلاحه ، وكل إضرار به فهو عدوان على ملك الله تعالى ، ولهذا حرم على الإنسان قتل نفسه كما قال تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا).
وقد يزعم بعض المدخنين أنه صاحب الدخان سنين ، ولا يستطيع أن يترك صحبته ونقول لهؤلاء لو سرق صاحبك منك مالا لهجرته وحذرت منه فما بالك بالدخان ، يسرق منك كل يوم أكثر من خمس وعشرين ليرة ليضر جسمك ، وقد جاء في الحديث (: " من آذى مسلماً فقد آذاني ، ومن آذاني ، فقد آذى الله " .
ويزعم كثير من الناس أن الدخان لم يرد ذكره في القرآن ، غافلين إن الله يقول: ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) ، فكل شيء مذكور أو مذكورة قواعد له كقوله تعالى: ( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ) ويدخل الدخان لأن العقل السليم يُقر بأن الدخان من الخبائث .
وقد يحتج بعض المدخنين بشرب الدخان من بعض الأطباء ، وبعض الذين يتصدرون للتوجيه والإرشاد ، وهذا لا يحله لأنهم غير معصومين من الخطأ ولا نقلدهم في خطئهم وفي الحديث: " كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون " ، وقدوتنا رسول الله (: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " .
أجمع الأطباء على أن الدخان سبب هام في سرطان اللسان والبلعوم والقصبة الهوائية والحنجرة والرئة والسكتة القلبية والسل وقرحة المعدة لاحتوائه على سموم عديدة أهمها سم النيكوتين والقطران وغيرها من السموم الضارة .
وقد أعلنت هيئة الصحة العالمية ، أن التدخين أشد خطراً على صحة الإنسان من أمراض السل والجذام والطاعون .
وهناك فتوى للشيخ محمد الحامد يقول فيها :
وبعد فالذي ينبغي أن يعتمد للإفتاء بإناطة الأمر بالضرر وعدمه ، فمتى ثبت ضرره حرم تناوله وأراني أميل إلى تحريمه لما ورد من الأحاديث والآيات.
ولو أن الفقهاء أفتوا بتحريمه وقطعوا أنفسهم عنه ونهو الناس عن تناوله وكانوا أسوة حسنه لأقلع الناس عنه وتركوه .
فيا أيها المسلم ، تَجَرَّعْ مرارة الصبر، وغصص الحرمان في البداية؛ لتذوق الحلاوة وتحصل على اللذة في النهاية.
والصبر مثلُ اسمه مرٌّ مذاقَتُهُ *** لكنْ عواقُبُه أحلى من العسل
بل ينبغي حجم النفس عن كثير من الملذات والشهوات كما قال أحدهم :
إذا المرء أعطى نفسه كلَ ما اشتهت *** ولم ينهها تاقت إلى كل مطلب
اللهم إنا نسألك العافية والمعافاة الدائمة ، في الدين والدنيا والآخرة وحسن الختام